سورة الشعراء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


هذه السورة كلها مكية في قول الجمهور إلا أربع آيات من: {والشعراء يتبعهم الغاوون} إلى آخر السورة، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة. وقال مقاتل: {أول لم يكن لهم آية}، الآية مدنية. ومناسبة أولها لآخر ما قبلها أنه قال تعالى: {فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً} ذكر تلهف رسول الله صلى الله عليه وسلم على كونهم لم يؤمنوا، وكونهم كذبوا بالحق، لما جاءهم. ولما أوعدهم في آخر السورة بقوله: {فسوف يكون لزاماً} أوعدهم في أول هذه فقال في إثر إخباره بتكذيبهم فسوف يأتيهم {أنباء ما كانوا به يستهزءون}. وتلك إشارة إلى آيات السورة، أو آيات القرآن. وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي، وأبو بكر وباقي السبعة: بالفتح؛ وحمزة بإظهار نون سين، وباقي السبعة بإدغامها؛ وعيسى بكسر الميم من طسم هنا وفي القصص، وجاء كذلك عن نافع. وفي مصحف عبد الله ط س م مقطوع، وهي قراءة أبي جعفر. وتكلموا على هذه الحروف بما يشبه اللغز والأحاجي، فتركت نقله، إذ لا دليل على شيء مما قالوه.
{والكتاب المبين}: هو القرآن، هو بين في نفسه ومبين غيره من الأحكام والشرائع وسائر ما اشتمل عليه، أو مبين إعجازه وصحة أنه من عند الله. وتقدم تفسير {باخع نفسك} في أول الكهف. {ألا يكونوا}: أي لئلا يؤمنوا، أو خيفة أن لا يؤمنوا. وقرأ قتادة وزيد بن علي: باخع نفسك على الإضافة. {إن نشأ ننزل}، دخلت إن على نشأ وإن للممكن، أو المحقق المنبهم زمانه. قال ابن عطية: ما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار، وإنما جعل الله آيات الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر، ليهتدي من سبق في علمه هداه، ويضل من سبق ضلاله، وليكون للنظرة كسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا إن لو كانت. انتهى. ومعنى آية: أي ملجئة إلى الإيمان يقهر عليه. وقرأ أبو عمرو في رواية هرون عنه: إن يشأ ينزل على الغيبة، أي إن يشأ الله ينزل، وفي بعض المصاحف: لو شئنا لأنزلنا. وقرأ الجمهور: فظلت، ماضياً بمعنى المستقبل، لأنه معطوف على ينزل. وقرأ طلحة: فتظلل، وأعناقهم. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح مجيء خاضعين خبراً عن الأعناق؟ قلت: أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخشوع، وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهبت أهل اليمامة، كان الأهل غير مذكور. انتهى. وقال مجاهد، وابن زيد، والأخفش: جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس، أي جماعة، ومنه قول الشاعر:
إن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا ***
وقيل: أعناق الناس: رؤساؤهم، ومقدموهم شبهوا بالأعناق، كما قيل:
لهم الرؤوس والنواصي والصدور *** قال الشاعر:
في مجفل من نواصي الخيل مشهود ***
وقيل: أريد الجارحة. فقال ابن عبسى: هو على حذف مضاف، أي أصحاب الأعناق. وروعي هذا المحذوف في قوله: {خاضعين}، حيث جاء جمعاً للمذكر العاقل، أولاً حذف، ولكنه اكتسى من إضافته للمذكر العاقل وصفه، فأخبر عنه إخباره، كما يكتسي المذكر التأنيث من إضافته إلى المؤنث في نحو:
كما شرقت صدر القناة من الدم *** أولاً حذف، ولكنه لما وضعت لفعل لا يكون إلا مقصوداً للعاقل وهو الخضوع، جمعت جمعه كما جاء: {أتينا طائعين} وقرأ عيسى، وابن أبي عبلة: خاضعة. وعن ابن عباس: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية، ستكون لنا عليهم الدولة، فتذل أعناقهم بعد معاوية، ويلحقهم هوان بعد عز. {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث}. تقدم تفسيره في الأنبياء. {إلا كانوا}: جملة حالية، أي إلا يكونوا عنها. وكان يدل ذلك أن ديدنهم وعادتهم الإعراض عن ذكر الله. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف خولف بين الألفاظ والغرض واحد، وهو الإعراض؟ قلت: كان قبل حين أعرضوا عن الذكر، فقد كذبوا به، وحين كذبوا به، فقد خف عليهم قدره وصار عرضه الاستهزاء بالسخرية، لأن من كان قابلاً للحق مقبلاً عليه، كان مصدقاً به لا محالة، ولم يظن به التكذيب. ومن كان مصدقاً به، كان موقراً له. انتهى.
{فسيأتيهم}: وعيد بعذاب الدنيا، كيوم بدر، وعذاب الآخرة. ولما كان إعراضهم عن النظر في صانع الوجود، وتكذيب ما جاءتهم به رسله من أعظم الكفر، وكانوا يجعلون الأصنام آلهة، نبه تعالى على قدرته، وأنه الخالق المنشيء الذي يستحق العبادة بقوله: {أو لم يروا إلى الأرض}؟ والزوج: النوع. وقيل: الشيء وشكله. وقيل: أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض. وقال الفراء: الزوج: اللون. والكريم: الحسن، قاله مجاهد وقتادة. وقيل: ما يأكله الناس والبهائم. وقيل: الكثير المنفعة. وقيل: الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد. وجه كريم: مرضي في حسنه وجماله؛ وكتاب كريم: مرضي في معانيه وفوائده. وقال: حتى يشق الصفوف من كرمه، أي من كونه مرضياً في شجاعته وبأسه، ويراد الأشياء التي بها قوام الأمور، والأغذية والنباتات، ويدخل في ذلك الحيوان لأنه عن اثنين. قال تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} قال الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمن صار إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فبضد ذلك.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى الجمع بين كم وكل؟ ولو قيل: {أنبتنا فيها من كل زوج كريم} قلت: دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة؟ فهذا معنى الجمع، وبه نبه على كمال قدرته. انتهى. وأفرد {لآية}، وإن كان قد سبق ما دل على الكثرة في الأزواج، وهو كم، وعلى الإحاطة بالعموم في الأزواج، لأن المشار إليه واحد، وهو الإنبات، وإن اختلفت متعلقاته، أو أريد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية.
{وما كان أكثرهم مؤمنين}: تسجيل على أكثرهم بالكفر. {وإن ربك لهو العزيز الرحيم}: أي الغالب القاهر. ولما كان الموضع موضع بيان القدرة، قدم صفة العزة على صفة الرحمة. فالرحمة إذا كانت عن قدرة، كانت أعظم وقعاً، والمعنى: أنه عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة. ولما ذكر تكذيب قريش بما جاءهم من الحق وإعراضهم عنه، ذكر قصة موسى عليه السلام، وما قاسى مع فرعون وقومه، ليكون ذلك مسلاة لما كان يلقاه عليه الصلاة والسلام من كفار قريش. إذ، كانت قريش قد اتخذت آلهة من دون الله، وكان قوم فرعون قد اتخذوه إلهاً، وكان أتباع ملة موسى عليه السلام هم المجاورون من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، بدأ بقصة موسى، ثم ذكر بعد ذلك ما يأتي ذكره من القصص. والعامل في إذ، قال الزجاج، اتل مضمرة، أي اتل هذه القصة فيما يتلوا إذ نادى، ودليل ذلك {واتل عليهم نبأ إبراهيم} إذ. وقيل: العامل اذكر، وهو مثل واتل، ومعنى نادى: دعا. وقيل: أمر. وأن: يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون تفسيرية، وسجل عليهم بالظلم، لظلم أنفسهم بالكفر، وظلم بني إسرائيل بالاستعباد، وذبح الأولاد، و{قوم فرعون}، وقيل: بدل من {القوم الظالمين}، والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد، إذ كل واحد عطف البيان، وسوغه مستقل بالإسناد. ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك، أتى عطف البيان بإزالته، إذ هو أشهر. وقرأ الجمهور: ألا يتقون، بالياء على الغيبة. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار، وشقيق بن سلمة، وحماد بن سلمة، وأبو قلابة: بتاء الخطاب، على طريقة الالتفات إليهم إنكاراً وغضباً عليهم، وإن لم يكونوا حاضرين، لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم. قال ابن عطية: معناه قل لهم، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم وأمرهم بالتقوى.
وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: {ألا يتقون}؟ قلت: هو كلام مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى عليه السلام من حالهم التي سعت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله. ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالاً من الضمير في الظالمين، أي يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال. انتهى. وهذا الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعله حالاً من الضمير في الظالمين، وقد أعرب هو {قوم فرعون} عطف بيان، فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي بينهما، لأن قوم فرعون معمول لقوله: {ائت} والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين، وذلك لا يجوز أيضاً لو لم يفصل بينهما بقوله: قوم فرعون.
لم يجز أن تكون الجملة حالاً، لأن ما بعد الهمزة يمتنع أن يكون معمولاً لما قبلها. وقولك: جئت أمسرعاً؟ على أن يكون أمسرعاً حالاً من الضمير في جئت لا يجوز، فلو أضمرت عاملاً بعد الهمزة جاز. وقرئ: بفتح النون وكسرها، التقدير: أفلا يتقونني؟ فحذفت نون الرفع لالتقاء الساكنين، وياء المتكلم اكتفاء بالكسرة. وقال الزمخشري: في ألا يتقون بالياء وكسر النون وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: ألا يا ناس اتقون، كقوله: {ألا يسجدوا} انتهى. يعني: وحذف ألف ياخطاً ونطقاً لالتقاء الساكنين، وهذا تخريج بعيد. والظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى، وقول من قال إنها للتنبيه لا يصح، وكذلك قول الزمخشري: إنها للنفي دخلت عليها همزة الإنكار.
ولما كان فرعون عظيم النخوة حتى ادعى الإلهية، كثير المهابة، قد أشربت القلوب الخوف منه خصوصاً من كان من بني إسرائيل، قال موسى عليه السلام: {إني أخاف أن يكذبون}. وقرأ الجمهور: {ويضيق} {ولا ينطلق}، بالرفع فيهما عطفاً على أخاف. فالمعنى: إنه يفيد ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان. وقرأ الأعرج، وطلحة، وعيسى، وزيد بن عليّ، وأبو حيوة، وزائدة، عن الأعمش، ويعقوب: بالنصب فيهما عطفاً على يكذبون، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف. وحكى أبو عمرو الداني، عن الأعرج: أنه قرأ بنصب: ويضيق، ورفع: ولا ينطلق، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر، لأن اللسان إذ ذاك يتلجلج ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان. وقال ابن عطية: وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر، لم ينطلق اللسان.
{فأرسل إلى هارون}: معناه يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السلام فصيحاً واسع الصدر، فحذف بعض المراد من القول، إذ باقية دال عليه. انتهى. وقال الزمخشري: ومعنى {فأرسل إلى هارون}: أرسل إليه جبريل عليه السلام، واجعله نبياً، وأزرني به، واشدد به عضدي؛ وهذا كلام مختصر، وقد أحسن في الاختصار حيث قال: {فأرسل إلى هارون}، فجاء بما يتضمن معنى الاستثناء. وقوله: {إني أخاف} إلى آخره، بعد أن أمره الله بأن يأتي القوم الظالمين، ليس توقفاً فيما أمره الله تعالى به، ولكنه طلب من الله أن يعضده بأخيه، حتى يتعاونا على إنفاذ أمره تعالى، وتبليغ رسالته، مهد قبل طلب ذلك عذره ثم طلب. وطلب العون دليل على القبول لا على التوقف والتعلل، ومفعول أرسل محذوف. فقيل جبريل، كما تقدم ذكره، وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون، وكان هارون بمصر حين بعث الله موسى نبياً بالشام. قال السدي: سار بأهله إلى مصر، فالتقى بهارون وهو لا يعرفه فقال: أنا موسى، فتعارفا؛ وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء الرسالة، فصاحت أمهما لخوفها عليهما، فذهبا إليه.
{ولهم عليّ ذنب}: أي قبلي قود ذنب، أو عقوبة، وهو قتله القبطي الكافر خباز فرعون بالوكزة التي وكزها، أو سمى تبعة الذنب ذنباً، كما سمى جزاء السيئة سيئة. وليس قول موسى ذلك تلكأ في أداء الرسالة، بل قال ذلك استدفاعاً لما يتوقعه منهم من القتل، وخاف أن يقتل قبل أداء الرسالة، ويدل على ذلك قوله: {كلا}، وهي كلمة الردع، ثم وعده تعالى بالكلاءة والدفع. وكلا رد لقوله: {إني أخاف}، أي لا تخف ذلك، فإني قضيت بنصرك وظهورك. وقوله: {فاذهبا}، أمر لهما بخطاب لموسى فقط، لأن هارون ليس بمكلم بإجماع، ولكنه قال لموسى: {اذهب أنت وأخوك} قال الزمخشري: جمع الله له الاستجابتين معاً في قوله: {كلا فاذهبا}، لأنه استدفعه بلاءهم، فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس المؤازرة بأخيه، فأجابه بقوله: اذهب، أي اذهب أنت والذي طلبته هارون. فإن قلت: علام عطف قوله اذهبا؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه كلا، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت وهارون بآياتنا، يعم جميع ما بعثهما الله به، وأعظم ذلك العصا، وبها وقع العجز. قال ابن عطية: ولا خلاف أن موسى هو الذي حمله الله أمر النبوة وكلفها، وأن هارون كان نبياً رسولاً معيناً له ووزيراً. انتهى. ومعكم، قيل: من وضع الجمع موضع المثنى، أي معكما. وقيل: هو على ظاهره من الجمع، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه. وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى، والخطاب لموسى وهارون فقط، قال: لأن لفظة مع تباين من يكون كافراً، فإنه لا يقال الله معه. وعلى أنه أريد بالجمع التثنية، حمله سيبويه رحمه الله وكأنهما لشرفهما عند الله، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع، إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته.
قال ابن عطية: {مستمعون} اهتبالاً، ليس في صيغة سامعون، وإلا فليس يوصف الله تعالى بطلب الاستماع، وإنما القصد إظهار التهمم ليعظم أنس موسى، أو يكون الملائكة بأمر الله إياها تستمع. وقال الزمخشري: {معكم مستمعون} من مجاز الكلام، يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه، فأظهركما وغلبكما وكسر شوكته عنكما ونكسه. انتهى. ويجوز أن يكون معه متعلقاً بمستمعون، وأن يكون خبراً، ومستمعون خبر ثان. والمعية هنا مجاز، وكذلك الاستماع، لأنه بمعنى الإصغاء، ولا يلزم من الاستماع السماع، تقول: أسمع إليه، فما سمع واستمع إليه، فسمع كما قال: {استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا} وأفرد رسول هنا ولم يثن، كما في قوله: {إنا رسولا ربك} إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة، فجاز أن يقع مفرداً خبر المفرد فما فوقه، وإما لكونهما ذوي شريعة واحدة، فكأنهما رسول واحد. وأريد بقوله: أنا أو كل واحد منا رسول.
{ورسول رب العالمين} فيه رد عليه، وأنه مربوب لله تعالى، بادهه بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية، ولذلك أنكر فقال: وما رب العالمين والمعنى إليك، {وأن أرسل}: يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول، وأن تكون مصدرية، وأرسل بمعنى أطلق وسرح، كما تقول: أرسلت الحجر من يدي، وأرسلت الصقر. وكان موسى مبعوثاً إلى فرعون في أمرين: إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم العبودية، والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما كان إلى فلسطين، وكانت مسكن موسى وهارون.


ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون، ولم يؤذن لهما سنة، حتى قال البواب: إن هنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال له: ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة، فعرف موسى فقال له: {ألم نر بك فينا وليداً} وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتيا فرعون، فقالا له ذلك. ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين، وأمره بإرسال بني إسرائيل معه، أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وعما جاء به من عنده، ويذكره بحالة الصغر والمنّ عليه بالتربية. والوليد الصبي، وهو فعيل بمعنى مفعول، أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة. وقرأ أبو عمرو في رواية: من عمرك، بإسكان الميم، وتقدم ذكر الخلاف في كمية هذه السنين في طه. وقرأ الجمهور: فعلتك، بفتح الفاء، إذ كانت وكزة واحدة، والشعبي: بكسر الفاء، يريد الهيئة، لأن الوكزة نوع من القتل. عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال، حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل، وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي، وعظم ذلك بقوله: {وفعلت فعلتك التي فعلت}، لأن هذا الإبهام، بكونه لم يصرح أنها القتل، تهويل للواقعة وتعظيم شأن. {وأنت من الكافرين}: يجوز أن يكون حالاً، أي قتلته وأنت إذ ذاك من الكافرين، فافترى فرعون بنسبة هذه الحال إليه إذ ذاك، والأنبياء عليهم السلام معصومون. ويجوز أن يكون إخباراً مستأنفاً من فرعون، حكم عليه بأنه من الكافرين بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان، قاله ابن زيد؛ أو من الكافرين بي في أنني إلهك، قاله الحسن؛ أو من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه الآن، قاله السدي.
{قال فعلتها إذاً}: إجابة موسى عن كلامه الأخير المتضمن للقتل، إذ كان الاعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية، لأنه فيه إزهاق النفس. قال ابن عطية: إذن صلة في الكلام وكأنها بمعنى حينئذ. انتهى. وليس بصلة، بل هي حرف معنى. وقوله وكأنها بمعنى حينئذ، ينبغي أن يجعل قوله تفسير معنى، إذ لا يذهب أحد إلى أن إذن ترادف من حيث الإعراب حينئذ. وقال الزمخشري: فإن قلت: إذاً جواب وجزاء معاً، والكلام وقع جواباً لفرعون، فكيف وقع جزاء؟ قلت: قول فرعون: {وفعلت فعلتك} فيه معنى: إنك جازيت نعمتي بما فعلت؛ فقال له موسى: نعم فعلتها، مجازياً لك تسليماً لقوله، كأن نعمته كانت عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. انتهى. وهذا الذي ذكره من أن إذاً جواب وجزاء معاً، هو قول سيبويه، لكن الشراح فهموا أنها قد تكون جواباً وجزاء معاً، وقد تكون جواباً فقط دون جزاء. فالمعنى اللازم لها هو الجواب، وقد يكون مع ذلك جزاء.
وحملوا قوله: {فعلتها إذاً} من المواضع التي جاءت فيها جواباً لآخر، على أن بعض أئمتنا تكلف هنا كونها جزاء وجواباً، وهذا كله محرر فيما كتبناه في إذن في شرح التسهيل، وإنما أردنا أن نذكر أن ما قاله الزمخشري ليس هو الصحيح، ولا قول الأكثرين.
{وأنا من الضالين}، قال ابن زيد: معناه من الجاهلين، بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه. وقال أبو عبيدة: من الناسين، ونزع لقوله: {أن تضل إحداهما} وفي قراءة عبد الله، وابن عباس: وأنا من الجاهلين، ويظهر أنه تفسير للضالين، لا قراءة مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال الزمخشري: من الفاعلين فعل أولي الجهل، كما قال يوسف لإخوته: {إذ أنتم جاهلون} أو المخلصين، كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو الذاهبين عن تلك الصفة. انتهى. وقيل: من الضالين، يعني عن النبوة، ولم يأتني عن الله فيه شيء، فليس عليّ فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ. ومن غريب ما شرح به أن معنى {وأنا من الضالين}، أي من المحبين لله، وما قتلت القبطي إلا غيرة لله. قيل: والضلال يطلق ويراد به المحبة، كما في قوله: {إنك لفي ضلالك القديم} أي في محبتك القديمة. وجمع ضمير الخطاب في منكم وخفتكم بأن كان قد أفرد في: تمنها وعبدت، لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، وإنما منه ومن ملئه المذكورين قبل {أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون}، وهم كانوا قوماً يأتمرون لقتله. ألا ترى إلى قوله: {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج} وقرأ الجمهور: لما حرف وجوب لوجوب، على قول سيبويه، وظرفاً بمعنى حين، على مذهب الفارسي. وقرأ حمزة في رواية: لما بكسر اللام وتخفيف الميم، أي يخوفكم. وقرأ عيسى: حكماً بضم الكاف؛ والجمهور: بالإسكان. والحكم: النبوة. {وجعلني من المرسلين}: درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول. وقيل: الحكم: العلم والفهم.
{وتلك نعمة تمنها عليّ}: وتلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: {ألم نر بك فينا وليداً}؛ وذكر بهذا آخراً على ما بدأ به فرعون في قوله: {ألم نر بك}. والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة، كأنه يقول: وتربيتك لي نعمة عليّ من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولداً، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب السدّي والطبري. وقال قتادة: هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون نعمة، كأنه يقول: أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان أن لا تقتلني ولا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك. وقرأ الضحاك: وتلك نعمة ما لك أن تمنها، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون ونقض كلامه كله.
والقول الأول فيه إنصاف واعتراف. وقال الأخفش: والفراء: قبل الواو همزة استفهام يراد به الإنكار، وحذفت لدلالة المعنى عليها، ورده النحاس بأنها لا تحذف، لأنها حرف يحدث معها معنى، إلا إن كان في الكلام أم لا خلاف في ذلك إلا شيئاً، قاله الفراء من أنه يجوز حذفها مع أفعال الشك، وحكى: ترى زيداً منطلقاً، بمعنى: ألا ترى؟ وكان الأخفش الأصغر يقول: أخذه من ألفاظ العامة. وقال الضحاك: الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي فأنت تمنّ علي بما لا يجب أن تمنّ به. وقيل: اتخاذك بني إسرائيل عبيداً أحبط نعمتك التي تمنّ بها. وقال الزمخشري: وأبي، يعني موسى عليه السلام، أن يسمي نعمته أن لا نعمة، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت. وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيداً، يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبداً، قال الشاعر:
علام يعبدني قومي وقد كثرت *** فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان
فإن قلت: وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع، عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في موضع نصب، المعنى أنها صارت نعمة عليّ، لأن عبدت بني إسرائيل، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى. وقال الحوفي: {أن عبدت بني إسرائيل} في موضع نصب مفعول من أجله. وقال أبو البقاء: بدل، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين، لم يسأل إذ ذاك فيقول: {وما رب العالمين}؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي. فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل، وكان في قوله: {رسول رب العالمين} دعاء إلى الإقرار بربوبية الله، وإلى طاعة رب العالم، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده. والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة، وكان عالماً بالله. ويدل عليه: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} ولكنه تعامى عن ذلك طلباً للرياسة ودعوى الإلهية، واستفهم بما استفهاماً عن مجهول من الأشياء. قال مكي: كما يستفهم عن الأجناس، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن. انتهى. والموضع الآخر قوله: {فمن ربكما يا موسى} ولما سأله فرعون، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية، ولم يمكن الجواب بالماهية، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما.
وقال الزمخشري: وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، {ليس كمثله شيء} وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشاً عن حقيقة الخاصة ما هي، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالاً بأفعاله الخاصة على ذلك؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام، أن كون سؤاله إنكاراً لأن يكون للعالمين رب سواه، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم يدعّ الإلهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنه لم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام؟ وأنه كان مقراً بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله: {وما بينهما} على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين: جنس السماء، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله:
بين رماحي مالك ونهشل ***
اعتباراً للجنسين: وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال: كان عالماً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة. وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله، وهو قوله: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء} الآية. ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم. ويحتمل أن يقال: كان على مذهب الحلولية القائلين: بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً. انتهى. ومعنى: {إن كنتم موقنين}: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفعكم؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله. وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد.
{قال لمن حوله}: هم أشراف قومه. قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور، وكانت للملوك خاصة. {ألا تستمعون}: أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجباً، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم. قال ابن عطية: والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية.
انتهى. يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية، وأقاموا ملوكاً بمصر، من زمان المعز إلى زمان العاضد، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها: فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام، كان النصارى مستولين عليها، فاستنقذها منهم. {قال ربكم ورب آبائكم الأولين}: نبههم على منشئهم ومنشئ آبائهم، وجاء في قوله: الأولين، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم. وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود، فمحال أن يكون وهو في العدم إلهاً لهم.
{قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}. قال أبو عبد الله الرازي: التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم، وعدمهم بعد وجودهم، فعند ذلك قال فرعون: ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فقال موسى عليه السلام: {رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون}: فعدل إلى طريق أوضح من الثاني، وذلك أنه أراد بالمشرق: طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب: غروب الشمس وزوال النهار.
وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة، وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: {ربكم ورب آبائكم الأولين}، فأجابه نمروذ بقوله: {أنا أحيي وأميت} فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: {رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون}: أي إن كنتم من العقلاء، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال ابن عطية: زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي ربوبية المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية. وقرأ مجاهد، وحميد، والأعرج: أرسل إليكم، على بناء الفاعل، أي أرسله ربه إليكم. وقرأ عبد الله، وأصحابه، والأعمش: رب المشارق والمغارب، على الجمع فيهما. ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج، رجع إلى الاستعلاء والغلب، وهذا أبين علامات الانقطاع، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه: {قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}.
وقال الزمخشري: لما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه، حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وظنن به، حيث سماه رسولهم، فلما ثلث احتد واحتدم، وقال: {لئن اتخذت إلهاً غيري}.
فإن قلت: كيف قال: أولاً: {إن كنتم موقنين}، وآخراً: {إن كنتم تعقلون}؟ قلت: لأين أولاً، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله: {إن كنتم تعقلون}. فإن قلت: ألم يكن لأسجننك أخصر من {لأجعلنك من المسجونين} ومؤدّياً مؤدّاه؟ قلت: أما أخصر فنعم، وأما مؤدّياً مؤدّاه فلا، لأن معناه: لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً، لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشد من القتل. انتهى. ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: {أو لو جئتك بشيء مبين}، أي يوضح لك صدقي، أفكنت تسجنني؟ قال الزمخشري: أو لو جئتك، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام، معناه: أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ انتهى. وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} فأغنى عن إعادته. وقال الحوفي: واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير، والمعنى: أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها؟.
ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له: {فأت به إن كنت من الصادقين}، إن لك رباً بعثك رسولاً إلينا. قال الزمخشري: وفي قوله: {إن كنت من الصادقين} دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا، وخفي على ناس من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى. وتقديره: إن كنت من الصادقين فأت به، حذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه. وقدره الزمخشري: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به. جعل الجواب المحذوف فعلاً ماضياً، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقولهم: أنت ظالم إن فعلت، تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وقال الحوفي: إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه، وجاز تقديم الجواب، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فأت به.
وقول الزمخشري: حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها. والمعجز عندهم هو ما كان خارقاً للعادة، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي، أو على سبيل الإرهاص لنبي.
{فألقى عصاه}: رماها من يده، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام. والثعبان: أعظم ما يكون من الحيات. ومعنى {مبين}: ظاهر الثعبانية، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر. {ونزع يده} من جيبه، {فإذا هي} تلألأ كأنها قطعة من الشمس. ومعنى {للناظرين}: أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضاً نورانياً. روي أنه لما أبصر أمر العصا قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده، فقال: ما هذه؟ قال: يدك، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.


قال ابن عطية: وانتصب حوله على الظرف، وهو في موضع الحال، أي كائنين حوله، فالعامل فيه محذوف، والعامل فيه هو الحال حقيقة والناصب له، قال: لأنه هو العامل في ذي الحال بواسطة لام الجر، نحو: مررت بهند ضاحكة. والكوفيون يجعلون الملأ موصولاً، فكأنه قيل: قال للذي حوله، فلا موضع للعامل في الظرف، لأنه وقع صلة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما العامل في حوله؟ قلت: هو منصوب نصبين: نصب في اللفظ، ونصب في المحل. فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، وذلك استقروا حوله، وهذا يقدر في جميع الظروف، والعامل في النصب المحلي، وهو النصب على الحال. انتهى. وهو تكثير وشقشقة كلام في أمر واضح من أوائل علم العربية.
ولما رأى فرعون أمر العصا واليد، وما ظهر فيهما من الآيات، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر. وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثَمّ من يقاومه، أو كان علم صحة المعجزة. وعمى تلك الحجة على قومه، برميه بالسحر، وبأنه {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره}، ليقوي تنفيرهم عنه، وابتغاؤهم الغوائل له، وأن لا يقبلوا قوله؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه، ثم استأمرهم فيما يفعل معه، وذلك لما حل به من التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه، فصار مأموراً بعد أن كان آمراً. وتقدم الكلام في {ماذا تأمرون} وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف، فأغنى عن إعادته. ولما قال: {إن هذا لساحر عليم}، عارضوا بقوله: {بكل سحار}، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة، لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب. وقرأ الأعمش، وعاصم في رواية: بكل ساحر. واليوم المعلوم: يوم الزينة، وتقدم الكلام عليه في سورة طه. وقوله: {هل أنتم مجتمعون}، استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كما يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شراً:
هل أنت باعث ديناراً لحاجتنا *** أو عند رب أخا عون بن مخراق
يريد: ابعثه إلينا سريعاً ولا تبطئ به. وترجوا اتباع السحرة، أي في دينهم، إن غلبوا موسى عليه السلام، ولا يتبعون موسى في دينه. وساقوا الكلام سياق الكناية، لأنهم إذا اتبعوهم لم يتعبوا موسى عليه السلام. ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها، وهي جواب وجزاء. {وبعزة فرعون}: الظاهر أن الباء للقسم، والذي تتعلق به الباء محذوف، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيماً، كما يقال للملوك: أمروا رضي الله عنهم بكذا، فيخبر عنه إخبار الغائب، وهذا من نوع إيمان الجاهلية.
وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية، لا يرضون بالقسم بالله، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف، فحينذ يستوثق منه. وقال ابن عطية: بعد أن ذكر أنه قسم قال: والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه، إذ كانوا يعبدونه؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء: بسم الله، وعلى بركة الله، ونحو هذا. وبين قوله: {قال لهم موسى}، وقوله: {لمن المقربين}، كلام محذوف، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى. قال الزمخشري: فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟ قلت: هو الله عز وجل، بما خوّلهم من التوفيق وإيمانهم، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة، ولك أن لا تقدر فاعلاً، لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا. انتهى. وهذا القول الآخر ليس بشيء. لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه، أما أنه لا يقدر فاعل، فقول ذاهب عن الصواب. وقال ابن عطية: قرأ البزي، وابن فليح، عن ابن كثير: بشد التاء وفتح اللام وشد القاف، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يحذف همزة الوصل، وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة، كما لا تدخل على أسماء الفاعلين. انتهى. كأنه يخيل أنه لا يمكن الابتداء بالكلمة إلا باجتلاب همزة الوصل، وليس ذلك بلازم كثيراً ما يكون الوصل مخالفاً للوقف، والوقف مخالفاً للوصل، ومن له تمرن في القراآت عرف ذلك.
{قالوا لا ضير}: أي لا ضرر علينا في وقوع ما وعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب، بل لنا فيه المنفعة التامة بالصبر عليه. يقال: ضاره يضيره ضيراً، وضاره يضوره ضوراً. {إنا إلى ربنا}: أي إلى عظيم ثوابه، أو: لا ضير علينا، إذ انقلابنا إلى الله بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه. وقال أبو عبد الله الرازي: لما آمنوا بأجمعهم، لم يأمن فرعون أن يقول قومه لم تؤمن السحرة على كثرتهم إلا عن معرفة بصحة أمر موسى فيؤمنون، فبالغ في التنفير من جهة قوله: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} موهماً أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل. وبقوله: {إنه لكبيركم}، صرح بما رمزه أولاً من مواطأتهم وتقصيرهم ليظهر أمر كبيرهم، وبقوله: {فلسوف تعلمون}، حيث أوعدهم وعيداً مطلقاً، وبتصريحه بما هددهم به من العذاب، فأجابوا بأن ذلك إن وقع، لن يضير، وفي قولهم: {إنا إلى ربك منقلبون}، نكتة شريفة، وهو أنهم آمنوا لا رغبة ولا رهبة، إنما قصدوا محض الوصول إلى مرضات الله والاستغراق في أنوار معرفته.
انتهى ملخصاً. ويدفع هذا الأخير قولهم: {إنا نطمع} إلى آخره، ولا يكون ذلك إلا من خوف تبعات الخطايا. والظاهر بقاء الطمع على بابه كقوله: {ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} وقيل: يحتمل اليقين. قيل: كقول إبراهيم عليه السلام: {والذي أطمع}.
وقرأ الجمهور: {أن كنا}، بفتح الهمزة، وفيه الجزم بإيمانهم. وقرأ أبان بن تغلب، وأبو معاذ: إن كنا، بكسر الهمزة. قال صاحب اللوامح على الشرط: وجاز حذف الفاء من الجواب، لأنه متقدم، وتقديره: {إن كنا أول المؤمنين} فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان. انتهى. وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال الزمخشري: هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر. جعله إن كنت عملت فوفني حقي، ومنه قوله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك. وقال ابن عطية بمعنى: أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى. ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون، فلا يحتمل النفي، والتقدير: إن كنا لأول المؤمنين. وجاء في الحديث: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل»، أي ليحب. وقال الشاعر:
ونحن أباة الضيم من آل مالك *** وإن مالك كانت كرام المعادن
أي: وإن مالك لكانت كرام المعادن، وأول يعني أول المؤمنين من القبط، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك المجمع. وقال الزمخشري: وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة.

1 | 2 | 3 | 4